المائدة.. رحلة تأمين إفطار رمضان وسط زيادة الأسعار والأعداد
قصة - صور - مارينا ميلاد:
الشوارع هادئة وشبه فارغة في تلك الساعة التي تسبق أذان المغرب يوم الجمعة. لكن أناسًا يصطفون بنظام في أحد شوارع منطقة شبرا، يمسكون كروتًا صغيرة تحمل رقمًا ما، وبجانبه كلمة "رمضان كريم". يبدو أن الدقائق تمر بطيئة وثقيلة عليهم: يحدقون في رجل يقوم بالنداء، يفحص بعضهم ساعته، ويمشي آخرون من المكان مسرعين، وفي أياديهم علب متراصّة يسمونها "العمود".
يراقب المشهد رجلان في العقد السابع من عمرهما: ناصر حسين، وجميل بناويتي؛ حيث يفعلان ما اعتادا فعله منذ 36 عامًا، حيث مائدة الرحمن الأكبر في منطقتهما "شبرا" بشكلها غير الروتيني. تلك المائدة، التي صمدت رغم انهيار غيرها، وقاومت رغم تهديد ارتفاع الأسعار لها، وزيادة أعداد القادمين إليها.
مائدة شبرا هي واحدة من 40 ألف مائدة رحمن (حسب إحصاء موقع محافظة القاهرة قبل سنوات)، غابت لعامين بفعل فيروس كورونا، وحين عادت بدت أقل كثيرًا من المألوف رؤيته خلال شهر رمضان، وبالأخص هذا العام.
الجمعة، 9 رمضان، قبل موعد الإفطار بـ9 ساعات..
يبدأ تجهيز الطعام للمائدة مبكرًا. يطهو الطباخ "علي" كميات من الأرز واللحم والخضروات. وعلى الجانب الآخر، يساعده أشخاص من المنطقة في إعداد أكياس السلطة وتعبئة التمر.
بالنسبة لـ"علي"، فهذا مشهد يتكرر رمضان بعد آخر طوال 16 عامًا قضاها مع هذه المائدة. لكن زادت عليه الكميات هذه المرة أكثر من كل عام. والسبب، كما يقوله، هو "زيادة أعداد المترددين على المائدة يومًا بعد يوم".
إذ صار "علي" يستهلك 55 كيلو أرز وشعرية يوميًا بدلا من 40 كيلو في رمضان الماضي، و50 كيلو لحمة بعد أن كان متوسط استهلاكه 30 كيلو. لكنه يقلل الكمية قدر الإمكان في الأيام الأقل ضغطًا مثل اليوم "الجمعة".
يتابع ناصر حسين التجهيزات بل يمد يده ويشترك معهم. "ناصر"، الذي يعرفه أغلب المارين ويلقون عليه السلام، هو من أسس هذه المائدة عام 1987. حين بدأ كل شئ صدفة.
كان اليوم الأول في رمضان عام 1987، و"ناصر" يقف على ناصية شارعه، فيقابل أشخاصا لا تجد مكانًا تتناول فيه الإفطار. تقفز الفكرة إلى رأسه، وينفذها بعدها بأيام.
أتى بطعام وعدة "بوابير" (موقد) ليقيم مائدة صغيرة بالشارع. وقتها، كان سعر الدولار يساوي حوالي 70 قرشًا، فاشترى "ناصر" طنا ونصف أرز بـ270 جنيه تقريبًا، وفقا لما يتذكره.
أما الآن، فتضاعفت أسعار المنتجات التي يحتاجها "ناصر" لمائدته نحو ثلاثة أضعاف مقارنة بشهر رمضان الماضي، كما يقول، إذ قارب سعر طن الأرز الأبيض الثلاثين ألف جنيه.
ومنذ شهر رمضان الفائت، انخفض الجنيه المصري أمام الدولار بمقدار 75% تقريبًا نتيجة الأزمة الاقتصادية التي خلقتها الحرب الروسية الأوكرانية. فتخطى معدل التضخم الـ30%، وارتفعت أسعار جميع السلع، ومنها الأطعمة والمشروبات بنسبة 61.5%.
تلك المساحة التي يقف فيها "ناصر" ومن معه للطهي، هي "مَنور" عقار متعدد الأدوار، صُنع له سقف خشبي ليكون مطبخًا لهذه المائدة.
يمتد إلى الداخل ليتسع الطعام المخزن كالأرز والبصل، بجانب أسطوانات البوتجاز.
لم يكن هذا المكان هكذا عندما بدأت المائدة. إنما بيت بحديقة واسعة يملكه جميل بناويتي، الرجل الثاني في هذه المهمة.
كان "جميل" (مدير حسابات بجامعة عين شمس) يقف في شرفته حين جاء "ناصر" ومن معه للإفطار بالشارع، فدعاهم ليجلسوا في حديقة بيته لأنها، كما يصفها، "مكان مستور".
من هنا، بدأ "جميل" مشاركة "ناصر" في كل ما يفعله لأجل المائدة، ومعهما اثنان من أصدقائهما. ولأن مائدتهم لم تكن معروفة حينها، اضطر الأربعة إلى "اصطياد" الناس من الشارع. هكذا يصف "ناصر" الأمر.
يقول "جميل": "منذ يومها الأول ولم تقم المائدة ابدًا على شخص واحد. نحن مجموعة مختلفي الدين والطبقة الاجتماعية. نشترك معًا إما بالمال أو الطعام أو المساعدة".
قبل قرون من هذه المائدة، ظهرت موائد الرحمن في مصر.
لا تاريخ دقيقًا لبدايتها، فيُقال إنها اخذت شكلها الحالي في عهد الخليفة أحمد بن طولون، الذي كان يقيم مآدب طعام للصائمين وأمر الأعيان بفتح بيوتهم لذلك.
وبعد زمن طويل، حَلّ أشخاص وجهات محل هؤلاء الأعيان. يقدر عددهم في القاهرة بنحو عشرة آلاف جهة أو طرف، ينفقون عليها مليار جنيه سنوياً، ليستفيد أكثر من 3 ملايين مواطن– وفقاً لدراسات صادرة عن جامعة الأزهر، وموقع محافظة القاهرة.
قبل موعد الإفطار بـ6 ساعات..
المطبخ الآن أشبه بخلية نحل، يحاول الجميع إنجاز طعام المائدة حتى لا يغلبهم الوقت.
يعمل "يسري" (الموظف الحكومي) وابنيه "محمد" (17 عامًا) و"مصطفى" (22عامًا) بإيقاع أسرع.
لقرابة الثلاثين عامًا، لم يفارق "يسري" المائدة، فهو من يشارك "ناصر" في شراء طلباتها بأفضل الأسعار المتاحة، فيقول: "منذ بداية العام ونحن نخطط، لأن الجنيه سيفرق معنا".
مع الخوف من غلاء الأسعار، سارع "ناصر" و"يسري" إلى تخزين كم كبير من الفاصوليا المتوقع زيادة سعرها، لكنها فسدت مع الوقت.
ولحسن الحظـ، نجح الأمر مع ما يمكن تخزينه مثل الأرز والزيوت، فكمية الزيوت والدهون التي يشتريها "ناصر" كل عام بنحو 18 ألف جنيه، تخطت السبعين ألفًا الآن، حسبما يذكر.
الأمر بأكمله كان صادمًا وضبابيًا لهم. فيقول "ناصر"، وهو يتابع تجهيز الطعام: "إن لم نخزن، فلم نستطع فعل شيء هذا العام".
لم تعش المائدة وضع كهذا في سنواتها الماضية. إذ كانت ممتده بطول الشارع، وهناك من يذبح في أغلب الأحيان، ليجلب لها كميات من اللحم، حسبما يحكي جميل بناويتي، الذي ارتبط بها سنة بعد سنة.
حتى مع ارتفاع الدولار تدريجيًا منذ عام 1990 وحتى 2015، لم تخنقها الأسعار مثل الآن.
إنما نضجت المائدة بمرور الوقت، فاستحدث "جميل" و"ناصر" نظام اسموه بـ"العمود"، حيث عدة علب متراصة فوق بعضها، يتم توزيعها على الأسر مع بداية شهر رمضان، ليذهب أحد أفرادها يوميًا إلى مكان المائدة ويضع بها أصناف الطعام، وبنهاية الشهر يُرجعها لهم.
ومع إن تلك الفكرة قلصت حجم المائدة بالشارع، إلا أنها خلقت موائد صغيرة أخرى. فكما يقول "جميل"، "ساعدت الذين يخجلون من الجلوس في الشارع وكبار السن، كذلك قللت هدر الطعام".
وعندما حضر فيروس كورونا ومنع إقامة موائد الرحمن لمدة عامين، لم تستلم هذه المائدة أيضًا. فوزع القائمون عليها الوجبات الجافة على الأسر.
لكن الظروف التي احاطت بها بعد ذلك ربما اربكتها واثقلت ميزانيتها، حيث زادت مصر نحو 55 مليونا أخرى عن الوقت الذي بدأت فيه المائدة. وتجاوزت معدلات الفقر فيها 30%، بحسب الأرقام الرسمية، وتلاشت الموائد الموجودة حولها شيئًا فشيئًا.
قبل موعد الإفطار بـ3 ساعات..
رائحة الطعام تفوح وتملأ الأجواء. يتوافد على المائدة سيدات ورجال وأطفال، يحملون "العمود" أو أواني أخرى. يبدو من الصورة أن اللقاء ليس عابرًا أو مؤقتًا. فالقادمين من المنطقة نفسها يتحدثون عن علاقتهم بها وأنها منفذهم الوحيد في رمضان.
يسألهم "ناصر" عن أحوالهم، ثم يوزع عليهم كروت عليها أرقام.
يركض محمود شاهين (محامي) بعد عمله ناحية المائدة، ليـأخذ دوره في المشاركة. فيتولى مسؤولية النداء على تلك الأرقام بالترتيب وتوزيع الطعام. يقول"شاهين": "هناك من أجبرته الظروف مؤخرًا على الوقوف في هذا الطابور. أعرف هؤلاء بمجرد النظرة واقدر مشاعرهم، فأحاول أن أعطيهم الطعام سريعًا".
تتصاعد الأبخرة خلف "شاهين" في وجه "علي" الطباخ، ومعها يتابع عدد الكروت التي تم توزيعها، ليكون مستعدا بالعدد. يذكر "علي" إن المتوسط اليومي الذي يضعه في اعتباره نحو 100 كارت، ما يعني 600 فرد.
يحصل هؤلاء على الأصناف المعتادة، لكن مع قطع لحمة أصغر كثيرًا مما كانت عليه في الماضي، بحسب "جميل"، الذي يرجع ذلك إلى غلاء أسعار اللحوم بشكل خلال الفترة الماضية.
الأمر نفسه تعاني منه عدد من المبادرات القائمة، ومنها مشروع هبة علام "مطبخ زاد" بمنطقة دار السلام، حيث زادت أعداد المستفيدين لأكثر من 500 فرد يوميًا وقلت التبرعات الآتيه له، حسبما تقول. ما جعلها تطرح أزمتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" لتحول دون غلق مطبخها أمام الناس.
جَمعت بهذه الطريقة تبرعات تكفي الأيام المتبقية من رمضان، وفقا لسعر الوجبة الذي رفعته في بداية الشهر من 35 جنيه إلى 50 جنيه. ومع ذلك، اضطرت إلى تقليل عدد الوجبات المقدمة للأسرة الواحدة، من أربع أو خمس وجبات إلى اثنين فقط.
وقبل أن تأخذ مبادرة "هبة" شكلها الحالي، كانت في البداية مائدة رحمن لمدة خمس سنوات، ثم تحولت بعد "كورونا" إلى مطبخ لتوزيع الوجبات الجاهزة، فتقول: "صار هذا الاتجاه أسهل وأوفر نسبيًا".
لكن "جميل"، الذي جاء من الولايات المتحدة مع بداية رمضان لأجل مائدتهم بشبرا، يشعر بأهمية استمرار شكلها التقليدي بالتوازي مع توزيع الوجبات: "ارتبطنا بها على هذا النحو، والأهم ألا يأتي أحد وقت الإفطار ويجد المكان مغلقًا".
قبل موعد الإفطار بـنصف ساعة..
أوشكت الشمس أن تتوارى واقترب موعد الإفطار.
في ذلك الوقت، انتهى توزيع الوجبات وانصرف الواقفون. كاد الشارع يخلو تمامًا من السيارات والمارة، فلم يسمع فيه إلا صوت رص أطباق واهتزاز زينة رمضان ومجسمات الهلال والصليب المعلقة أعلاه.
لايزال "علي" الطباخ واقفا في المطبخ، يفحص الطعام المتبقي قبل أن يغادر، حتى ينبههم إن اقترب نفاد أي صنف.
وفي الخارج، يظل "ناصر" و"جميل" أيضًا جالسين حتى نهاية الإفطار.. يستند الرجلان بظهرهما إلى الخلف وينظران إلى المائدة.. يتعجبان أحيانًا من استمرارها كل هذا الزمن وأنها تقاوم ظروفًا لم تخدمها.. يتذكران بدايتها، وصديقهما المصري الإيطالي الذي هاجر والآخر الذي رحل، وأنه لم يتبق غيرهما.
فيقول الاثنان، وهما يكملان حديث بعضهما: "كانت هناك موائد حولنا ولم تكمل.. نريد أن نستمر ونسلمها لغيرنا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقرأ أيضًا: ربع كيلو.. كيف قاومت أسرة ارتفاع الأسعار في رمضان؟
فيديو قد يعجبك: