إعلان

ثقافة أمنية جديدة في الشرق الأوسط

د. إيمان رجب

ثقافة أمنية جديدة في الشرق الأوسط

د. إيمان رجب

* زميل أبحاث مقيم بكلية الدفاع التابعة لحلف الناتو بروما

ورئيس الوحدة الأمنية والعسكرية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

08:05 م الإثنين 24 يوليه 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تاريخيًا، تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من المناطق التي تعاني منذ عقود طويلة من غياب ترتيب أمني إقليمي فعال security deficit، وذلك مقارنة بأقاليم أخرى في العالم نجحت في بلورة أشكال مختلفة من تلك الترتيبات الأمنية يتعامل كل منها مع أحد تهديدات الأمن الجماعي لدول تلك الأقاليم.
ولكن شهدت المنطقة خلال السنوات السبع الماضية تشكل عدة أطر وآليات جديدة للأمن الإقليمي بعضها بمبادرة من الولايات المتحدة وبعضها الآخر بمبادرة من دول المنطقة، ومنها ما يهتم بالارهاب مثل التحالف الاسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في الرياض، و مركز القاهرة لمكافحة الإرهاب لتجمع دول الساحل والصحراء، و بعضها خاص بالأمن البحري مثل آلية "البناء الدولي للأمن البحري " The International Maritime Security Construct و تحالف "القوات البحرية المشتركة" Combined Maritime Forces. فضلا عن إنشاء عدة آليات للتشاور السياسي الاستراتيجي حول قضايا الأمن التقليدي والأمن غير التقليدي في المنطقة، ومنها آلية منتدى النقب التي أعلن عنها في يونيو 2022 و آلية "مجموعة I2U2" التي أعلن عنها في خريف 2021، والآلية الثلاثة التي تضم مصر والأردن والعراق والتي أعلن عنها في 2020.
وتفيد هذه التطورات بأن منطقة الشرق الأوسط على مشارف مرحلة جديدة ستنتقل بموجبها من كونها منطقة تعاني من security deficit إلى منطقة مليئة بأشكال مختلفة من الترتيبات الأمنية متعددة الأطراف ترتكن إلى ثقافة أمنية جديدة، فالثقافة الأمنية هي الركيزة التي تتشكل من خلالها التفاعلات الأمنية لدول المنطقة واستراتيجياتها وقراراتها الأمنية الخارجية، وتساعد في تحديد ما الذي يتم تهديده؟ وما الذي يهدد الأمن في المنطقة؟ وهما قضيتان رئيسيتان في أي ترتيب أمني إقليمي.
وهذه الثقافة الأمنية الجديدة لها ثلاث أبعاد رئيسية. يتعلق البعد الأول بتخلي دول المنطقة عن التصور القديم الذي كان يركز على التهديد والذي كان يميز الثقافة الأمنية التي كانت سائدة في المنطقة من قبل ، باتجاه تبني تصور يهتم بالفرص باعتبارها مدخل غير مباشر قد يضعف التهديد أو يحتوي تأثيره. وتعد الثقافة الأمنية التي تهتم بالفرص اتجاه جديد في التفكير الاستراتيجي على منطقة الشرق الأوسط.
ويتصل البعد الثاني بتفضيل دول المنطقة توسيع مفهوم الأمن بحيث لا يكون قاصرا على البعد العسكري-السياسي، حيث أصبحت هذه الدول تتبنى مفهوما شاملا للأمن يضم المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والمجتمعية والثقافية والبيئية والصحية إلى جانب المجال العسكري-السياسي، دون أن يكون هناك بالضرورة رابط مباشر بين هذه المجالات يعزز من مستوى الأمن المتحقق في كل منها.
ويتعلق البعد الثالث بمسألة من الذي يهدد الأمن في المنطقة؟ حيث تفضل دول المنطقة بشكل عام تجنب تصنيف أي دولة أخرى سواء كانت تنتمي جغرافيا لمنطقة الشرق الأوسط، أو تعد قوى دولية كبرى لها مصالح في المنطقة من خلال ثنائية الدولة "عدو" أو الدولة "الصديقة" استنادًا لتاريخ العلاقات معها، وفي المقابل يلاحظ انفتاح دول المنطقة على تقبل فكرة الدولة العديقةfrenemy ونسج علاقات مصلحية مع أي دولة تتشارك معها في تصوراتها الأمنية وتستند لمكاسب متبادلة يتم تحقيقها لكل طرف.
ويترتب على ذلك، أن آليات الأمن الجماعي التي يمكن أن تتشكل في المستقبل ستركز على قضايا محددة تمثل تهديد ما وفرصة ما ولا تدور حول دولة عدو ، وستضم هذه الآليات دولا لديها تصورات مشتركة حول المصلحة المتبادلة التي سيحصل عليها كل منها like minded ، وبالتالي فإن ضم أي دولة لتلك الترتيبات أو استبعادها لن يكون وفق اعتبارات العداء والصداقة ولكن استنادًا إلى ما يمكن أن تقدمه هذه الدولة للعلاقات المصلحية التي يرتكز عليها الترتيب الأمني.
ونتيجة لوجود هذه الثقافة الأمنية الجديدة فإن أي ترتيبات مستقبلية للأمن الجماعي في المنطقة متوقع أن تكون ترتيبات أمنية جزئية محدودة العضوية لن تشمل بالضرورة مجمل الدول العربية في المنطقة وتستبعد أي دول غير عربية. ففي المقابل متوقع أن يكون ترتيب أمني متعدد الأطراف يشمل عددا من الدول العربية مع أخرى غير عربية لديها تصورات أمنية مشتركة تتماشى مع الثقافة الأمنية الجديدة في المنطقة.
كذلك اتساقًا مع هذه الثقافة الجديدة سيكون هناك اهتمام متزايد بالأبعاد غير العسكرية للأمن الاقليمي، حيث متوقع أن أي ترتيب للأمن الجماعي سينشأ في المستقبل لن يرتكن إلى الأداة العسكرية فقط لكونها غير فعالة في التعامل مع الجوانب غير العسكرية للأمن والتي بدأت تهتم بها دول المنطقة في ضوء تبنيها مفهوم واسع للأمن. ولذا متوقع أن تعتمد ترتيبات الأمن الجماعي المستقبلية على طائفة متنوعة من الأدوات التي تتناسب مع القضايا التي هي موضوع تلك الترتيبات وتشمل أدوات اقتصادية وتكنولوجية وسياسية وبيئية وصحية، مع تنامي واضح لدور القطاع الخاص في إتاحة هذه الأدوات للدول الأعضاء في تلك الترتيبات.
وبالتالي لن تكون مقدرات القوة التي تمتلكها الدولة هي العامل الرئيسي في تحديد أدوات ترتيبات الأمن الجماعي المستقبلية ولكن أيضا مقدرات القوة التي تمتلكها شركات القطاع الخاص بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات. لاسيما في ظل وجود توافق جماعي محدود بين دول المنطقة حول أن التهديدات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية العابرة للحدود تحتاج إلى تحرك جماعي غير تقليدي يقوم على توظيف التكنولوجيا الحديثة وتوظيف قدرات الشباب والمرأة من أجل ضمان الاستقرار والأمن الإقليمي بشكل مستدام.

إعلان