في ذكرى الأربعين.. مصراوي يحاور "أيقونة" تفجير البطرسية
حوار- أحمد الليثي وإشراق أحمد ومحمد زكريا:
في لمح البصر صارت "أيقونة" الحدث؛ تفجرت الكنيسة البطرسية ورحل 28 مصريًا وآخرون في عداد المصابين، فيما لا زالت صورتها تذيل كل خبر يرتبط بالفاجعة رغم مرور 40 يوما كاملة. سيدة بسيطة ترتدي زي الراهبات، يحمل وجهها الصغير كل مأسي البشر، التقطها أعين المصورين في غمضة عين، بينما مرت عليها تلك اللحظة كالدهر.
طيلة الفترة الماضية ظلت "تاسوني دميانة" في دنيا الزاهدين، تعمدت عدم الحديث أو خطف الأنظار، تطاردها الكاميرات بعدما طافت صورها العالم كله، لكنها آثرت البقاء داخل عالمها الصغير غير المتجاوز لأعمال الخير والتردد على الكنائس.
قبل لحظات من تفجير البطرسية كانت "دميانة" تخوض مشوارها اليومي داخل الكاتدرائية "أنا شغالة في لجنة البر.. مسئولة عن مساعدة اخواتي المحتاجين". دوي الانفجار كان أقوى من قدرتها على الثبات، هرعت نحو الكنيسة المصابة "الأمن قاللي مينفعش تدخلي عشان لو في قنبلة تانية"، لكنها ركضت نحو قاعة الصلاة "قعدت أكتر من ساعة في زوال.. ناس طالعة وناس داخلة، لكن مشيفاش إلا صورة وشي في الأرض" تحكي تاسوني دميانة لمصراوي.
ساعة بالتمام والكمال مرت، وصاحبة الـ52 عاما في عالم آخر، المشاهد تتسارع داخلها، تبكي بحرقة، الحزن صنع أخدودًا نفذ إلى روحها، توجهت إلى محل أخيها بحي الضاهر، هدأ من روعها وهو يسأل: "أنتي كنتِ بتعيطي ليه"، فأجابته: "هما شُهداء وكان لازم أزغرط لهم، بس كنت بعيط على حالي عشان كان المفروض أسرق الأكليل واطلع معاهم على الفردوس".
في اللحظة التي انزوت فيها "دميانة" بركن قصي في الكنيسة، لم تستشعر ومضات الكاميرات بينما تلتقط صورًا لها، أسندت وجهها على كفها المرتعش، بينما يدور بفؤادها قصة تعود للقرن الخامس الميلادي؛ المكان وادي النطرون حيث منطقة "برية شيت"، كان ملك البربر يقطع رأس كل راهب، وفي إحدى المرات هجم جيش من جنوده على دير أبو مقار بقيادة مندوب من الملك وابنه، هرب مَن هرب وبقي 49 راهبًا ذُبحوا جميعًا، وبعد لحظات طلب ابن مندوب الملك أن يُذبح هو الآخر، فيما كان السبب رؤيته لملاك يصطحب كل راهب إلى السماء متوجًا إياهم بأكليل ذهبي، وكذلك فعل والده –مندوب الملك- فدفن 51 بالدير وخُصصت لهم كنيسة تحمل إلى اليوم اسم الـ"49 شيخ شهيد".
للموت جلال خاص في نفس دميانة، زُرع بداخلها قبل 34 سنة، قبيل شهر واحد من زواجها، حين مرت أمامها جنازة سلبت منها الانبهار بمباهج الدنيا، وقررت الصبية بنت الـ18 ربيعًا "الرهبنة"، وأمام رفض أسرتها، أسرت في نفسها القرار.
"كانت ليلة أكليلي –زواجي- فضلت أطبل مع اللي بيطبلوا وأزغرط ومعرفتهمش أني ماشية، وبالليل وهما بيدبحوا الدبيحة روحت هاربة"، شهر كامل ظلت فيه عائلة دميانة تبحث عن ابنتها "أخواتي جزارين وكانوا ناويين يدبحوني"، من أمام منزلها بملوي في محافظة المنيا، اتجهت صوب بني سويف، هناك تم اعتمادها كراهبة "أبونا قاللي اللي تعمل كدة تستحق خدمة الكنيسة من غير اختبار".
كانت قرية ابنة الصعيد تعج بالشائعات عن تلك الفتاة التي هربت ليلة زواجها، غير أنها عادت لملوي مرفوعة الرأس وهي ترتدي ملابس خادمات الكنيسة ويتقدمها 3 من الكهنة أشادوا بدورها وشجاعتها وسط ترحيب الأهل، ومن يومها وهبت "دميانة" حياتها لخدمة الكنيسة.
لدميانة جسد نحيل، لا يليق بعمل مديد دام منذ عرفت قدماها طريق الكاتدرائية، لم تبدل العاصمة فطرتها؛ يحفظ لسانها لهجة أهل الصعيد في "تعطيش" حرف الجيم. لا تنقطع تاسوني عن "الغلابة" بمنطقة المقطم، تلقاهم يوميًا أثناء خدمة التوزيع "اللي محتاجة تتجوز واللي محتاج غسالة.. كلهم أخواتي مسلم ومسيحي مفيش فرق"، المقربون منها يوقنون أنها "بايعة نفسها"، الحياة الدنيا بالنسبة لها ثمن بخس، لا حاجة لها فيها إلا للقيمات تعينها على "صلب طولها" لمواصلة العمل.
27 عاما من الزهد في القاهرة، عاشت دميانة لا صيت لها إلا بين محبيها بمنطقة المقطم، غير أنه منذ ديسمبر المنصرف أضحت ابنة البابا شنودة -كما توصف- تحظى بشهرة مغايرة حتى بين معارفها السابقين "حبابيبي بقوا يجيبوا لي الجرايد اللي فيها صورتي عشان احتفظ بيها"، فيما فاجأتها "أم محمد" المسن التي ترعاها دميانة في منطقة السيدة عائشة "خدت صورتي من الجورنال بروزتها وعملتها في سلسلة على صدرها".
بقدر ما أسعدها محبة الناس، ومهاتفتها من كل أرجاء الأرض "ناس بتكلمني من الصين واستراليا وأمريكا ولندن، يقولولي صورتك منورة"، لكن غصة تمكنت منها "أيه المكافأة إن صورتي كل العالم يشوفها، وأنا مقدرتش اعمل حاجة للشهدا".
لم تجد دميانة في صورها المنشورة شيئًا يُذكر، بل كانت سببًا في منعها عن أداء واجبها بحضور جنائز الراحلين من البُطرسية؛ فكلما تواجدت في مكان تهافتت عليها وسائل الإعلام "كنت أخاف يسيبوا الجنازة ويركزوا معايا"، حتى في الذكرى الأربعين اضطرت لمغادرة الجمع "دخلت أوضة وقفلت علي نفسي لأن كتير عايزين يصوروا معايا".
لا تدَّعي دميانة المثالية، وإنما هي فلسفتها في الحياة "كنت عايزة محبتي وجزائي يجوا من عند ربنا.. زي اللي بيقعد يشتغل طول الشهر ويتعب ويجي في أخر يوم يتشتم.. شكرا بتاعت الناس زي الشتيمة.. أنا مش عايزة استوفي أجري على الأرض.. كل همي ربنا".
فيديو قد يعجبك: