على طريق النزوح.. ما تكشفه رسائل لبنان في 48 ساعة
- مارينا ميلاد:
“إذا أنت متواجد في مبنى فيه سلاح لحزب الله ابتعد عن القرية حتى إشعار آخر"..
كانت تلك الرسالة الأولى التي استفاق عليها سكان قرى جنوب لبنان، صباح الإثنين، والقادمة إليهم من إسرائيل عبر أرقام غير ظاهرة.
كلمات قليلة أخبرت آلاف العائلات بالجنوب أن حربًا جديدة مباغتة تحل على أرضهم، وطالبتهم بالنزوح مثلما طلبت من سكان غزة سابقًا، وهناك بدأت من الشمال ثم تمددت.
لم يكن أمام الكثير منهم سبيل سوى الهروب باتجاه مناطق أخرى أو العاصمة "بيروت"، وكأن مشهد غزة يتكرر مرة أخرى، فملأت صفوف السيارات الطرق الواصلة بين مدينة صور الجنوبية وبيروت مرورًا بمدينة صيدا، حيث انتظرت السيارات المكدسة بالنساء والأطفال والأمتعة لساعات طويلة حتى قضى أغلبهم الليل هناك.
وحولهم، استمرت الغارات الإسرائيلية على بلدات وقرى جنوب لبنان، لتقتل في اليوم الأول فقط 492 شخصاً وتصيب أكثر من 1600 آخرين (وفق لوزارة الصحة اللبنانية).
وخلال ثمانٍ وأربعين ساعة من الضربات الإسرائيلية، التي بدأت برسالة تحذيرية واحدة، تدفقت مئات الرسائل الأخرى من اللبنانين عبر الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي لتكشف وضعًا ثقيلًا ومخيفًا في أيام لم تشهدها بلدهم منذ حرب عام 2006.
------------------
"صراحة ما بقدر احكي، لأن في أرقام وهميه كتير.."،
أول رسالة تلقيناها من "علي"، أحد سكان القرى الجنوبية، والتي يكتبها عبر "واتس أب" وهو ينزح من قريته، كانت مقتضبة وكاشفة لما يشعر به. إذ بات "علي" وغيره لا يثقون بالرسائل ولا الأرقام الغريبة، ولا بأجهزتهم نفسها.
فقبل ساعات من رده، دق هاتفه، مثل سكان جنوب لبنان، لتنبهه بقدوم رسائل متلاحقة، جميعها تحمل أرقامًا غير ظاهرة أو وهمية، وتطالبه بترك مكانه لأنه "مستهدف".
فالغارات الإسرائيلية طالت مناطق وأودية في محافظة النبطية بالجنوب وأنحاء عدة في منطقة صور.
كان "علي" واحدًا من اللبنانيين الذين تلقوا "أكثر من 80 ألف محاولة اتصال يشتبه بأنها إسرائيلية، تطلب منهم الإخلاء"، وفقا لعماد كريدية، مدير شركة الاتصالات اللبنانية "أوجيرو".. ومعه، زياد المكاري (وزير الإعلام اللبناني) رغم وجود مكتبه ببيروت.
فوصف "المكاري" هذه الرسائل التي اخترقت مكتبه بأنها "أسلوب ليس غريباً على العدو الاسرائيلي الذي يتوسّل كل السبل في حربه النفسية".
ورغم أن نظام الاتصالات اللبناني يمنع تلقي أي اتصالات مصدرها إسرائيل، لكن الأخيرة "تتحايل على أنظمة الاتصال من خلال استخدام رمز دولة صديقة، وهو ما يفسر تلقي اللبنانيين اتصالات عبر الشبكة الثابتة"، وفقا لعماد كريدية.
وبجانب الرسائل، تلقت لبنان 1100 ضربة خلال اليوم الأول فقط، حسبما أعلن الجيش الإسرائيلي، وبينما لم يفسح ذلك طريقًا لمئات السكان، تمكن آخرون من الفرار عشوائيًا.
------------------
"هذا شاب عمره ١٨ سنة من ضيعة الطيبة طلع من بيته عم يجيب أغراض رجع لاقة بيته مقصوف وولا واحد من أهله إلو اثر .. وبعتوه على بيروت ما معه ثياب ما معه اكل ما معه أي شئ.. هو حاليا بالطريق ممكن أي حدن يساعد؟ هو فايت بصدمة كتير كبيرة.. "
لم يكن "سعيد" قادرًا أن يكتب أو ينطق بكلمة واحدة. فرغم أنه ولد في ظل حرب إسرائيل وحزب الله عام 2006، لكنه لم يعش أيامها القاسية التي استمرت نحو شهر وقُتل بها أكثر من 1100 لبناني.. فكبر على هدوء حذر ثم"مناوشات" متقطعة بين الطرفين، ولم يكن يتخيل يومًا أن تتجاوز مواقع حزب الله وتصل إلى بيته وأهله في منطقة لم تُستهدف من قبل.
ذلك القصف الذي توسع مسرحه؛ وصفه نجيب ميقاتي (رئيس الوزراء اللبناني) بـ"الخطة التدميرية للقرى والبلدات اللبنانية".
وعليه، رافق "سعيد"- وحيدًا دون عائلة - أسرًا غريبة نازحة على الطريق المتكدس بالسيارات إلى أقرب مكان يفترض أنه آمن -حتى اللحظة.. لكن يبدو أن الوقت سيطول وسيمر ببطء لا يُحتمل.
------------------
“مرت رفيق زوجي اجاها الطلق والسيارة مش عم تتحرك ابدا
شي ممرضة تروح لعندها أو موتسيكل يوصلها على المستشفى بطريقة سريعة.. لأن كتير عجقة"..
سمع "سعيد" صراخ منبعث من سيارة قريبة، وكان صوت "نادية"، السيدة الثلاثينية القادمة من بلدة مجدل سلم نحو بيروت، والتي قضت أكثر من 9 ساعات في رحلة لا تستغرق سوى ساعة ونصف الساعة بالأيام العادية.
وخلال الطريق المتوقف فاجأها مخاض الولادة.
ولم يجد من معها وسيلة لطلب المساعدة سوى مواقع التواصل الإجتماعي لتصل بدراجة بخارية إلى أقرب مستشفى بصيدا أو يكون حظها جيدًا بقدر يسمح بوجود طبيب أو ممرضة في سيارة مجاورة.
بالفعل، جلب لها هذا المنشور "قابلة" (المولدة) كانت بمكان قريب، لتلد "نادية" بالسيارة ويأتي طفلها وسط مشاعر مختلطة وفي ظل حرب مثل "سعيد".
------------------
"سيارة فارغة من البنزين على مفرق النجارية .. لون كحلي بصحبته امرأة مسنة ومرهقة.."
"هيدا رقم شب عم يعبي بنزين للعالم المحتاجة.."
على بعد عشرات الأمتار من سيارتي "سعيد" و"نادية"، كانت سيارة "جواد" تطلق إشارة له أنها باتت بحاجة إلى وقود.
ويصيح سائق سيارة أجرة على مقربة منه بالشيء نفسه.
زاد ذلك من توتر "جواد"، فهو قلق على والدته وأسرته، فأرسل لصديقه لينشر استغاثته على صفحة يتابعها الآلاف.
وبالأساس، لم يكن أغلب هؤلاء الجنوبين قادرين على مواجهة مزيد من الأزمات. فهم يسكنون مناطق تعاني الفقر في بلد منهار اقتصاده تقريبًا. إذ ارتفع معدل الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من السكان، (وفقًا لتقرير البنك الدولي مايو 2024).
"السقوط إلى الهاوية في لبنان يأخذ شكل أحجار الدومينو منذ توقف الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا"، هكذا وصفت دراسة بعنوان "الفقر وقصور التنمية -حالة محافظتي الجنوب والنبطية"، الوضع. والسبب، كما تذكره الدراسة، "عدم وجود إصلاحات في الإدارة والمرافق في ظل قصور السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ثم انهيار قيمة العملة الوطنية، وانفجار مرفأ بيروت الذي عقّد الأوضاع للمواطنين أكثر."
وربما انعكس سقوط كل حجر دومينو على حياة "جواد"، الأب لخمسة أولاد، والذي كان يعمل في مجال البناء، وتأثر لسوء الأوضاع الإقتصادية أولا ثم تكرار القصف ببلدته الحدودية، منذ أن فتح حزب الله جبهته لمساندة غزة وقصف مواقع إسرائيل الشمالية في الثامن من أكتوبر الماضي.
ويومًا بعد يوم، تحول جنوب لبنان وشمال إسرائيل إلى مرمى الضربات المتبادلة، والتي بلغت ذروتها هذا الأسبوع بعد انفجارات أجهزة الاتصالات اللاسلكية "البيجر" في وجه عناصر حزب الله، ثم استهداف قادته في الضاحية الجنوبية لبيروت، وما تلاه من هجوم حزب الله بالصواريخ على مُجمعات صناعات عسكرية وغيرها شمال مدينة حيفا.
ولم يكن "جواد" ومن معه في تلك اللحظة، مثل من تيسّرت لهم سبل الفرار خلال الأشهر الماضية بعدما تيقنوا أن الحرب الأوسع آتية لا محالة.
------------------
"بدي بيت لاهلي برا بيروت.. عم يضربوا.. ساعدوني"..
ومن سيارة أخرى، استعانت "مروة" بوسائل التواصل الاجتماعي أيضًا، واستنجدت كغيرها، لعلها تجد مجيبًا.
وانهالت التعليقات على منشورات "مروة" وغيرها لمتطوعين يعرضون المساعدة وعناوين وتليفونات بيوت استضافة للقادمين من الجنوب. كما فتح عددٌ من المدارس أبوابها لتصبح ملاجئ للنازحين، ومنها مدارس في بيروت وطرابلس وشرق لبنان.
لكن الوصول من الجنوب إلى الأماكن ليس أمرًا سهلا في ظل ازدحام يملأ الأفق وقصف متواصل. فوصلت "مروة" بأهلها لمنطقة الشوف، وهناك، تقول: "حجزت بيتًا بـ600 دولار شهريًا بمنطقة الشوف. وطلبوا 3 أشهر سلفة، فالأسعار ترتفع بين ساعة والثانية، وكان هناك شخص آخر يريد 1800 شهريًا"..
فيما ظل بقية أهلها عالقين بمنطقة الغازية (قرى صيدا).
------------------
"لو سمحتو بدنا فرش و مخدات لينامو ٥ عيل على طريق المطار"..
لكن لم يتمكن آخرون ممن كانوا بالطريق خلفها من الوصول لأي مكان.
فبحلول منتصف الليل، قررت أسرة مكونة من ستة أفراد، يبدو عليهم الإنهاك الشديد، أن يفترشوا الأرض على جانب الطريق وكثيرون ناموا داخل سيارتهم. فلم تنفع نداءات استغاثتهم.
يقول الأب "محمد" بحسرة: "سننتظر حتى نجد منزلا أو مدرسة تستقبلنا، ليس بوسعنا فعل شيء".
وقد نزح "محمد" مع "ما يقرب من نصف مليون" نازح، حسب عبد الله بوحبيب (وزير الخارجية اللبناني).
------------------
"إذا في بزغرتا بيت أو اوتيل لان قالولي فتحو الاوتيلات.. أنا زوجي بغسل كلى وما بقدر انزل بمدرسة.."
"بلدية صيدا بحاجة لفرش .. في عدد كبير من النازحين عم ينام عالارض"..
"أنا مدير مطعم، قررنا أنا و الشيف و الشباب انو نطبخ اكل و نزلو على المدارس إلى فيها نازحين، أول أسبوع قادرين نغطي من جيبتنا، و في حدا قادر يأمن شوية أغراض بس إذا ايا حدا بيقدر يتبرع لو بكيس رز، أو شوية خضرا أو بهارات.."
"السلام عليكم في هيدا الحاج والحجة كبار بالعمر نزلوا حوالي الساعة ٣ من الحلوسية و المفروض يروحو على بلدة جون و لهلق ما الن أثر.. رجاءً اذا حدا شافن بصيدا أو شي منطقة يتواصل معي."..
هكذا تتوالى رسائل الاستغاثة اليائسة وتجتاح مواقع التواصل الاجتماعي ليومين، ومرشحة للزيادة إن طال آمد الحرب ..
تلك الحرب التي يقول عنها بنيامين نتانياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) إن هدفها "تغيير التوازن الأمني على طول حدود إسرائيل الشمالية"، ويبرر مسؤوليه أفعالها بأن "حزب الله يضع صواريخه وأسحلته وسط بيوت المدنيين".. فبدا أن كل ما يُعمل ويقال كسيناريو مشابه تماما لما وقع في غزة قبل نحو عام، وهو ما حذر منه انطونيو غوتيريش (الأمين العام للأمم المتحدة)، خلال كلمته أمام الجمعية العامة الثلاثاء، قائلا "لبنان على حافة الهاوية، نخشى أن يصبح هذا البلد غزة أخرى".
وفي رسالة إسرائيلية جديدة قادمة إلى اللبنانيين، قال أفيخاي أدرعي (المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي) اليوم: "لا تعودوا إلى المنازل التي خرجتم منها...حتى إشعار آخر، الغارات مستمرة".
- أسماء السكان الواردة بالتقرير مستعارة حفاظا على سلامتهم.
فيديو قد يعجبك: